تشريح لأزمة الأسعار وتحديات التعافي 

تشريح لأزمة الأسعار وتحديات التعافي 

محررو الاستثمار

هشام المحيا


تعكس التحركات الأخيرة في سوق الصرف، بمناطق سيطرة الحكومة الشرعية، واقعًا اقتصاديًا شديد التعقيد، فمن جهة، سجل الريال اليمني تحسنًا لافتًا أمام العملات الأجنبية بنسبة تتجاوز 30%، ما ولّد حالة من التفاؤل الشعبي، ومن جهة أخرى، بقيت الأسعار على حالها، ما أدى إلى تصاعد الغضب الشعبي واتهام القطاع الخاص بالمماطلة في خفض الأسعار.

في الواقع، يكشف هذا التناقض الظاهري بين تحسن العملة وجمود الأسعار، عن اختلال أعمق في هيكل الاقتصاد، وعن محدودية أدوات التدخل الرسمية، وانعدام التنسيق بين السياسات النقدية والرقابية والتجارية.

وفي ظل هذا التشابك، من غير المجدي النظر إلى القطاع الخاص كجدار صد لتحميل المسؤولية وحده، تمامًا كما لا ينبغي إعفاؤه من دوره وتأثيره في ديناميات السوق.

ما الذي حدث فعليًا؟

رغم أهمية الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي اليمني، في كبح جماح المضاربة بالعملة، إلا أنها تبقى، أقرب إلى "تحرك صادم في السوق"، بحسب مراقبين، لا يستند إلى قاعدة اقتصادية صلبة. ذلك أن مصادر النقد الأجنبي الرئيسية –كالصادرات والمنح وتحويلات المغتربين– لا تزال متراجعة أو شبه متوقفة، والعجز في الحساب الجاري يتجاوز 4 مليارات دولار سنويًا، ما يجعل هذا التحسن "قصير الأجل" في أحسن الأحوال، ما لم تتبعه إصلاحات هيكلية عميقة.

لكن اللافت، هو أن هذا المشهد النقدي لا يتشكل فقط من عوامل السوق التقليدية، بل هناك دور خفي تتولاه شبكات منظمة من المضاربين والصرافين، وبعضها على صلة بجهات معادية للحكومة الشرعية، تعمل بشكل ممنهج - عبر ضخ طلبات مفاجئة على العملة الصعبة أو ترويج أسعار وهمية - على زعزعة الاستقرار المالي،
هذه العمليات، التي كثيرًا ما تتم بالتوازي مع أزمات إنسانية أو توترات سياسية، تهدف إلى إضعاف قدرة الحكومة على ضبط السوق، وتُغرق مناطق الشرعية في أزمات معيشية حادة، تؤدي إلى تآكل الثقة بالسياسات الرسمية، وتعزيز حالة السخط الشعبي.

وفي النهاية، يتحول الضغط الشعبي إلى محفز لإجراءات متسرعة من البنك المركزي، تُضعف قدرته على ضبط السوق بشكل مستدام، وتضع المواطن والقطاع الخاص في صدام مباشر، بدل أن تُكشف الحلقات الغائبة في سلسلة الأزمة.

ما وراء الجمود؟
المطالب الشعبية بخفض الأسعار عقب تحسن الريال هي في الواقع مطالب حتمية ومنطقية، لكن ثمة حلقة مفقودة في الوسط، وهي المعنية بالربط بين تحسن العملة من جهة وبقاء الاسعار مرتفعة من جهة اخرى، وهي ذات الحلقة التي تلعب دور شوكة الميزان في معادلة التضاد السعري للعملة والاسعار.

هذه الحلقة التي يتم تجاهلها تتمثل في دورتين اقتصاديتين متباينتين هما : دورة النقد، ودورة السلع. و90% من السلع يتم استيرادها بالعملة الصعبة التي تضخ للتجار عبر السوق الموازي غالبا.

وبالتالي، فإن فرض تسعيرة على التجار بناء على توقعات وليس وفق دراسات دقيقة، يعني تكبدهم خسائر فورية قد تدفعهم إلى تقليص الاستيراد أو الخروج من السوق، ما يؤدي بدوره إلى اختلال في المعروض وعودة سريعة لدوامة ارتفاع الأسعار.

بكل الاحوال، الحديث هنا لا يعني الدفاع عن سلوك كل التجار، فهناك من يستغل غياب الرقابة والمضاربة في الأسعار، لكنه يؤكد أن التحليل يجب أن يتجاوز منطق الاتهام إلى تشخيص البيئة الاقتصادية التي تنتج هذه السلوكيات.

وفي هذا السياق، عبّرت مجموعة هائل سعيد أنعم، كواحدة من أبرز الكيانات التجارية في اليمن، عن استحالة فرض تسعيرات غير واقعية دون الأخذ في الاعتبار الكلفة الحقيقية للسلع. بل إن التخفيض العشوائي للأسعار دون أدوات حماية للاقتصاد قد يفضي إلى نتائج عكسية تمس الأمن الغذائي والسلعي للمواطن ذاته.

لاعب مضطر في اقتصاد مختل

توسعت مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد اليمني خلال سنوات الحرب لتشكل ما بين 70% إلى 80% من الأنشطة، متجاوزًا أدوارًا كانت تقليديًا من اختصاص الدولة. لكن هذا التوسع، لم يكن انعكاسًا لسياسات تنموية مدروسة، بل لفراغ خلفه انكماش القطاع العام، ما زاد من عبء القطاع الخاص، دون أن يصاحبه تحسن في البنية التحتية أو بيئة الأعمال أو التشريعات.

يواجه هذا القطاع اليوم تحديات متعددة، منها : صعوبة الحصول على العملة الأجنبية، وتعطل سلاسل التوريد، وارتفاع تكاليف النقل والتأمين، وغياب الدعم الحكومي، وتفشي الاحتكار والمضاربة من أطراف نافذة.

والأسوأ أن سياسات الحكومة –حين تُتخذ– غالبًا ما تكون آنية وردّة فعل، ولا توفر حماية كافية لأي تسعيرة رسمية.

وفي الوقت الذي يُضغط فيه على القطاع الخاص للاستجابة لتحسن سعر الصرف، تغيب ضمانات الاستقرار النقدي، ويُترك السوق مكشوفًا أمام عمليات المضاربة التي يقودها لاعبون في الظل، بعضهم مرتبط بشبكات سياسية وجهات معادية، تسعى لتقويض شرعية الحكومة عبر خلق أزمة اقتصادية مزمنة تضع المواطن في مواجهة دائمة مع مؤسسات الدولة.


أدوات البنك المركزي
رغم أن البنك المركزي أظهر في الآونة الأخيرة قدرة على التدخل لضبط السوق، إلا أن أدواته تظل محدودة في ظل الانقسام السياسي وتعدد مراكز النفوذ. فإجراءات مثل سحب تراخيص الصرافين المتلاعبين، مهمة وضرورية، لكنها تبقى ذات أثر مؤقت ما لم تعالج الإشكالات الأعمق ومنها: غياب مصادر النقد الأجنبي، وتوقف الصادرات، وفقدان الثقة في استقرار السياسات الاقتصادية.

بل إن استمرار الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق، وتفاوت سعر الصرف بين المناطق، هو بحد ذاته مصدر اضطراب وبيئة خصبة للمضاربة، في غياب جهاز رقابي فاعل قادر على فرض الالتزام.


خارطة طريق
من غير المقبول أن يتحسن سعر العملة دون أن يلمس المواطن أي أثر لذلك، لكن من غير الواقعي كذلك تجاهل المعطيات التي تحول دون ذلك. المطلوب إذًا ليس تحميل المسؤولية لطرف بعينه، بل صياغة تدخلات متكاملة وواقعية، وفي مقدمتها : تحديد تسعيرات واقعية مرتبطة بهامش زمني، وتقديم ضمانات حكومية للمستوردين والتجار، وإعادة تفعيل الصادرات وتأمين الإيرادات السيادية، الى جانب تحسين بيئة الاستثمار والإنتاج المحلي، وضبط الأسواق بآليات رقابية لا دعائية


ختاما
الاقتصاد اليمني يعيش مرحلة دقيقة، ولا يمكن الخروج من عنق الزجاجة عبر قرارات إدارية معزولة أو تحميل طرف واحد كل تبعات الانهيار. فخفض الأسعار يجب أن يكون نتاجًا لسياسات متكاملة، تبدأ بتثبيت سعر العملة على أسس إنتاجية، وتوفير البيئة المناسبة لتطبيق التسعيرات، وليس عبر أوامر ارتجالية.

المعادلة لا تحتمل المزيد من المغالطات، فالمواطن يستحق أسعارًا عادلة، والقطاع الخاص بحاجة لضمانات حقيقية، والدولة مطالبة بتحمّل مسؤوليتها كاملة.

اجمالا، الحل يبدأ من فهم الخلل المتكرر في سلسلة الصرف، بدءًا من المضاربة السياسية المنظمة، مرورًا بالفراغ الرقابي، وانتهاءً بسياسات اقتصادية قصيرة النفس.
ترميم هذه الحلقة المهمة، ستفتح الباب أمام استقرار فعلي للعملة ومن خلالها ستكون الطريق ممهدة نحو تعافٍ اقتصادي مستدام.

طباعة